الدرويش والوابور

يقال أن أحد الدراويش المصريين و اسمه حرفوش كان يردد دوماً كلاماً يقول :
" يا وابور قلي رايح على فين "

أسافرُ حيثُ الشموسُ و حيثُ ألاقي حروفي تضوع بعطر المطر
أسافر حيث أحبك أركض حتى تذوب الخطا
و أحزن حتى اشتعال العيون بدمع الرحيل
فأرسم شمسا تربي السنا كي تضيء الحقول
و تنسج أفقاً يغطي الدروب بثوب الدرر
و أرسم في غرفة الحلْم شعبا من الضوء
يطلع كل نهار و ينشد للموطن المنتظر
تجاوبه دافئات الرياح بلحنٍ حزينٍ كهذي الملامح ضمن الصور
و يأتي من البعد صوتٌ حزينْ
" يا وابور قلي رايح على فين "
فأشدو ..
أسافر حيث المكانُ و حيث الزمانْ
ففي موطني المرِّ و الحلوِ مثل القصيدةِ ليس لدينا نجوم تجيءْ
و ليس لدينا مكانٌ نراقب فيه السماءَ
سوى حافةِ المنحدر
حنين القوافل للموطنِ
و عشق المسافر للممكنِ
و هَذْيُ الطيور على الأغصنِ
أنا ..
أقول كثيراً و أهذي كثيراً و أبكي كثيراً كما موطني
أحب جنوني و لكنني
أحاول ألا أكون غريبا و أخفق
أحاول ألا أئِن خلال الكتابة لا أستطيع فأبكي بديلا عن الضجة المؤلمة
أصاحب حزني و أركض تحت الشموس الرزينة أمضغ نفسي و أزفر ما جاءني من فكر
و مثل الجميع أحب المساء
دموعَ الثكالى على الراحلين
و تنهيدةَ الليل عند السحر
أحب المساء و أكره ما فيه من منتظرْ
يموت الكثيرون في موطني
فمنهم يموت بجلطة قلبٍ
و منهم يموت بغصة حزنٍ
و منهم يقولون عنه
تعشا و نام و لم يستفق
و بعض الكبار يجيئون غربا
يعيشون غربا
يقال أخيرا ..
أتى كالمسافر دخن مثل القطار الذي جاء منه
و قال القليل عن الطقس ثم تجمع داخل مقلته الدمع ثم انفجر
و داس اللفافة مثل القيود
و أغضى البصر

3

كثيرون من يرحلون مع الفجر ثم يجيئون عند الغروب
كثيرون من صاحبوا الدمع طول الحياة و لم يضجروا
كثيرون من يغسلون الثياب بماء الدموع ..
فدمع الشعوب كماء الوضوءِ يزيل الكدرْ
لأن الدموع مسارح شعب يحب النضال
و ما يتبقى على الأرض بعد الدموع
يسمَّى ضجرْ

4

أدخن قبل القصيدة مثل قطار يحب السفر
و يحدث أن تمطر الكلمات فتملأ بيتي
و يحدث أني أحب السجائر جداً
و أني كسول كنسرٍ ضرير
أدخن جدا لتحضر دوما قصيدة
و أنشر غيم السجائر فوق السرير
و حينا أفكر ..
أيأتي نهار و أنشر فيه سحائب سيجارتي في جريدة ؟
أيأتي نهار و أصبح فيه أفتش أرض الليالي على خبزةٍ أو حروف جديدة ؟
أيأتي نهار و أفلس فيه و أمشي بثوب مرقع
و أصبح فوق الحديدة .. ؟!

5

هناك كثيرٌ من الحزن في بيتنا
فجدي توفي منذ نهارينْ
و أمي بكته كثيرا و صلت كثيراً
و لكنه لم يعد
أراد الحياة ليحيا تقياً
و صلّى كثيراً و كافح حتى ينال الرغيف و ملح الحياة
و في ليلة حين كان يصلّي
تجمد فوق البساط القديمْ
و قال لأمي .. أرى القبر يبرق مثل النجوم غداة تلوِّح فوق النوافذ بعد ظلام
أرى المصطفى باسما ..
يقول تعال إلينا .. و يذهب ثم يزول الألم
تزول المواجع عن كاهلي
تصير الحياة ضبابا
و خلف الضباب طيور تغني و نهر أثيرْ
فمالت عليه بصمت و قالت .. أبي يا أبي
تحدث إليَّ .. و لم يستجب
و حط على الخد سرب دموعٍ
و غاب الشهيد و حلق فيه السرير
و منذ توفي جدي .. و أمي تغني
" يا وابور قلي رايح على فين "